Saturday, 24 November 2012

السفير السوري في لندن - بقلم: د. مكرم خوري-مخول

أطلال السفير السوري في لندن آثار باقية لجهد شخصي

أطلال السفير السوري في لندن آثار باقية لجهد شخصي
سامي الخيمي آخر سفير سوري مع الملكة البريطانية اليزابيث الثانية
13 June 2012

خاص للكومبس د. مكرم خوري - مخول

في صباح ذات يوم من شهر أيار ١٩٧٦ تم استدراجي كطفل وبلطف نسيم الصباح الى غرفة مكتبتنا البيتية في يافا عندما اقترحت علي والدتي المرحومة الاديبة والكاتبة الروائية انطوانيت خوري-مخول قراءة كتاب باللغة الانجليزية من القطع الصغير كان قد اشتراه جدي في ١٩٣٩ ودفعتني الى مطالعته. حملت الكتاب بيد اسدلتها بمستوى خصرتي وفركت عيناي بيدي الاخرى غير معارض ولكن ليس باكتراث كبير كمن يقول يا فتاح يا عليم…ما هو درس اليوم. واكملت طريقي الى جدتي لكسب المزيد من العناق! قبل تسليمي الكتاب بدقائق حملت نسمات بحر يافا الى مسامعي في الغرفة المجاورة للشرفة (البلكونة) حوار قهوة صباحي تحليلي عما شملته طيات الليلة السابقة عندما اكتظت مكتبة بيتنا بالضيوف على مختلف الوانهم واجناسهم ولغاتهم ومهنهم . كان هذا الملتقى الثقافي عاديا في بيتنا رغم انه لم يكن مألوفا في تلك البقعة من الارض وفي ذلك الزمان. ففي تلك الليلة طغى ولربما بشكل بارز اكثر من المعتاد الوجود الديبلوماسي ما بين الحضور حيت لفت انتباه بعض الضيوف جدالا ما بين صحفية وديبلوماسي مخضرم برتبة سفير كانت والدتي قد لاحظت انني شاهدته وهذا ما دعاها الى دمج كتاب كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس لدايل كارنيجي How to Win Friends and Influence People في منهاج البيت والذي نشر في ١٩٣٦ اي قبل اربعة عقود من هذه الحادثة الصحفية - السياسية التي حصلت في بيتنا حيث كما يبدو لم تنجح عملية بناء الثقة في الحديث بشكل مميز ما بين تلك الصحفية وذاك الديبلوماسي.
تسللت هذه الحادثة من مخزون ذاكرتي عن حادثة في فلسطين وتربعت نتيجة العلاقة السببية في عرش خلايا وعيي عندما مررت سيرا على الاقدام وانا في لندن منذ بضعة ايام قبالة المنزل الرسمي الذي أقام به حتى قبل ثلاثة شهور وجيزة الدكتور سامي الخيمي، سفير الجمهورية العربية السورية في المملكة المتحدة والذي كنت اتردد عليه باستمرار واحظى بمعاملة اهل الدار.
منذ صغري وبسبب بيئة الاسرة كان الديبلوماسيون جزءاً من التركيبة الاجتماعية العادية جدا التي واكبتها في بيتنا اليافي الى جانب المثقفين الكبار منهم، رغم فقرهم المالي والادباء والصحفيين والاكاديميين والناشطين في مجال حقوق الشعب الفلسطيني وحقوق المرآة. وصدف ان تزوجت احدى شقيقاتي ديبلوماسي اوروبي رفيع المستوى يمثل دولة كانت ذات مرة امبراطورية وما زال بعض قياداتها السياسيين بين الحين والآخر يتصرفون في المنابر الدولية من منطلق الحلم النابوليوني.
في نيسان ٢٠١١ سحبت الخارجية البريطانية بالتنسيق مع قصر الملكة اليزابث الدعوة الموجهة للسفير السوري سامي الخيمي وعقيلته لحضور حفل زفاف ويليام حفيد الملكة من الشابة كيت ميدلتون. توقع العديد من السفير الخيمي رد فعل اعلامي غاضب ولكن بدلا من ذلك جاء رده هادئا مؤدباً ومتسامحاً تمحور في ان الزفاف هو يوم فرح العرسان وانه يتمنى لهما السعادة. وفهم الجمهور ان دعوته سوف لا تزيدهم فرحاً ولا تنتقص من احترامه ومكانته لانها فقاعة للاستهلاك الاعلامي وشد العضلات السياسي. لم يكن الدكتور سامي الخيمي من نوع الشخصيات الدبلوماسية التي قد نكون قد قابلناها في الحياة الواقعية الديبلوماسية اليومية العادية ولا كالتي ممكن ان نتخيلها بايحاء روايات غراهام غرين كـ 'رجلنا في هاقانا' (1958) او كتب جون لا كاريه الكثيرة كـ 'خياط باناما' و 'الرجل المطلوب' والتي تجمع ما بين الديبلوماسية والمخاباراتية نتيجة التجربة المزدوجة للكاتبين في المهنتين. على مدار العقدين الماضيين عرفت العشرات من الديبلوماسيين والسفراء بالتحديد، ولسنا هنا في صدد دراسة مقارنه مستفيضة عن الموضوع فلكل اسلوبه الخاص، فان للدكتور الخيمي شخصية مختلفة جعلت منه ظاهرة لربما تتطلب الدراسة العميقة. فهو اكاديمي ومهندس كما انه ليس من قيادة الحزب الحاكم ولا ديبوماسي محترف. الا ان ثقافته الواسعة واتقانه للغات عدة وحسه الاجتماعي الرفيع جعل كل بريطاني او اجنبي التقى او حاور السفير الخيمي معجبا بادبه واخلاقه وابتسامته وتواضعه وصوته الهادئ الذي يدل على انه مفعم بثقته بنفسه خاليا من 'النفخة' والاستعلاء. وكل عربي التقاه خرج بشعور انه منذ هذه اللحظة اصبح صديقه العزيز الاوحد. فرغم شح الميزانيات وعدم تقديم الضيافة الفخمة في المناسبات فقد امتدت الطوابير وامتلأت قاعات الاستقبال في السفارة السورية او خارجها بالناس لتحيته. قراءته السريعة لتطور الاحداث جعلته يتبنى العفوية رغم تنظيم مواعيده حيث اختصر البيروقراطية وقابل كل من هو بحاجة للقائه. قيم الحضارة السورية العريقة عالياً ولذلك فقد ساهم بنجاعة باعادة تنظيم الجالية السورية في بريطانيا وجعلها تسطع من بين الجاليات العربية، كما وفتح ابواب السفارة للريادة الثقافية حيث جمع الشرق والغرب كدعوة الكاتبة البريطانية ياسمين اليبهاي صاحبة العامود الشهير في صحيفة 'الاندبندنت' للاحتفاء بصدور كتابها بالانجليزية او دعوة الشاعر الكبير سميح القاسم الى ندوة شعرية في السفارة السورية في لندن. بين الثقافة والسياسة، لاحظ الجميع كيف انه عامل طاقم السفارة من كبيرهم الى صغيرهم كآب مرشد لاغياً الاسلوب السلطوي الابوي البطركي المتعجرف.
بعد ان لاحظت استمتاع من حوله في حديثه خلال النشاطات الاجتماعية وديناميكية حوار الدكتور السفير سامي الخيمي، ساورتني مرة اخرى حادثة كتاب دايل كارنيجي، فسآلت نفسي عن سبب النجاح المميز للسفير الخيمي بين المؤسسات الرسمية والجاليات المختلفة الجمعيات النسائية ورجال الاعمال والطلاب، فبدأت استمع لحديثه مع الناس كالمراقب الاكاديمي الذي يدرس انماط الحديث وتسلسل اللغة ومبنى الجمل ورسالاته وايماء المتحدث والخ. ذات يوم تناولت معه طعام الغذا بصحبة صحفية اجنبية. ورغم لياقتها فلم تكن هذه الصحفية اميرة في اللباقة السياسية وهذا لربما بالامر الطبيعي عندما تمر دولتك في ازمة سياسية حيث يجب ان تكون مستعداً لتلقى كل ما يصلك ومن كل حدب وصوب. وكان السفير الخيمي قد اجاب على كل الاسئلة وبالتحديد على سؤال معين (ليس من المهم اذا كان البعض سيصفه بالسام ام الذكي) بادب ورقي، جعلها تندي وجهها. اكملنا الغذاء المتواضع ومشيت مع الصحفية بصمت تام لان حدة الموقف كانت ما زالت تداعب لذة الطعام في افواهنا. عندما وصلنا الى سيارتها توقفت الصحفية لبرهة قبل وداعي وقالت: "يا له من انسان مميز". قلت لها… 'وما الذي يجعلك تقولين ذلك؟' - قالت : "تجلس معه وبامكانك التشعب بالحديث. فهو واسع الاطلاع على الثقافات المختلفة وعلاقاتها الدولية وفنونها وبشكل منفتح ومتسامح". قلت لها: "جميل…اية ملاحظة اخرى؟" استغربت سؤالي. واكملت قائلة: "وما رآيك انت؟" قلت لها: " قد تكون شهادتي غير متوازنة كليا". واضفت قائلاً لها: "اعرف انك قابلت العديد من قياديي العالم وما الذي جعلك تندهشين من الدكتور الخيمي؟" تنهدت بحيرة وقالت: "انها طريقة تفكيره… يطرح امامك فرضية…ويداعبك في ترسيخها…ويجعلك تسترسل في الحديث… وبعد ترسيخها يقول لك ان طريقتك في تدعيم الفرضية مليئة بالثغرات موفرا لك الامثلة. وبعد ذلك يضع السيجارة في فمة لمدة طويلة وينظر اليك بصمت نصف باسم." قلت وماذا بعد؟ قالت: "يجعلك تحترمه من باب المنطق وتستنتج اننا كبشر غير معصومين عن الخطأ وانه يجب ان نحاول مرة اخرى بشكل افضل". ! 

اكاديمي فلسطيني مقيم في كيمبريدج

No comments:

Post a Comment