خجلاً من فلسطين!
القدس العربي - لندن - 02.02.2007
ان الخلاف السياسي بل الحزبي في فلسطين يحزنني كما يحزنكم، وأن رغبتي في الوفاق والوئام رغبتكم، فقد كان لاتحادكم في الماضي وقع جميل في العالم العربي اجمع. فانعش ذلك الاتحاد خارج فلسطين آمالاً كادت تموت، وارسل اشعة نور الوطنية الحقة التي طردت ظلمات اليأس المخيمة علي قلوب الناس. ولطالما قلنا ونادينا أن تمثلوا بعرب فلسطين، استضيئوا بنور مصباحهم الساطع، رغم ظلمات الاحتلال .
ان هذه الكلمات تعبر عن شعور العديد منا هذه الايام تجاه ما يجري في فلسطين، انها كلمات فيلسوف الفريكة الراحل أمين الريحاني (1876 ـ 1940) وليست كلماتي وقد نشرت في جريدة فلسطين يوم 23 نيسان 1927 التي كانت تصدر في يافا عروس البحر وفلسطين سابقاً والمنكوبة ـ الصامدة حالياً. وقد جاءت كلمات الريحاني هذه علي شكل رسالة جوابية للمناضل الراحل عيسي العيسي (1878 ـ 1950) صاحب ورئيس تحرير جريدة فلسطين الذي طالب الريحاني أن يقوم باصلاح ذات البين بين الأحزاب الفلسطينية أثناء قيامه بجولة محاضرات في عدد من مدن فلسطين ورغم مرور ثمانية عقود علي ذلك، إلا ان الماضي ما زال حاضراً.
قبل عام من الآن وفي جو شباطي بارد وجهت لي دعوة من مركز العلاقات الدولية في جامعة كيمبريدج للمشاركة في ندوة بعنوان: إنتصار حماس وأبعاده علي المسيرة السلمية . إلي جانب كل من د. رانغوالا استاذ العلوم السياسية في جامعة كيمبريدج وسفير بريطانيا السابق في العراق وادوارد شابلين رئيس قسم الشرق الأوسط وافريقيا بوزارة الخارجية البريطانية وكذلك الدكتور ستيفن هالبر الذي عمل مستشاراً لعدة رؤساء أمريكيين.
وغصت القاعة بالطلاب والباحثين والخبراء والدبلوماسيين والجواسيس علي مختلف انتماءاتهم.
وقد طلبت من العريف أن أكون آخر المتحدثين. وكان من أهم النقاط التي ناقشها المشاركون ظاهرة مد الحركات الاسلامية في العالم العربي و القلق علي مصير العرب النصاري نتيجة هذا المد!
عندما جاء دوري بالحديث طلبت من الجمهور أن يسامحني لرغبتي في خلع قبعتي الأكاديمية والتحدث كعربي ـ فلسطيني أولا، رغم معرفتي بالنتائج الوخيمة علي مساري المهني وشرعت قائلا ما يلي: في الماضي حارب العرب النصاري الحملات الصليبية... الي جانب ابناء وطنهم وجلدتهم المسلمين، وتساءلت منذ متي اهتم الاستعمار الغربي بالعرب النصاري، اللهم، إلا، لغاية فرق تسد ؟ وأن غالبية الكنائس الغربية أثناء الاستعمار خدمت مصالحه في العالم العربي ولم يكن ابداً همها المباشر العرب النصاري... ولنترك الكنائس الغربية جانباً، ونتساءل معاً أين كانت الدول والحكومات الغربية المسيحية عندما حاصر الاحتلال الاسرائيلي كنيسة مهد المسيح عليه السلام في بيت لحم، وهي ثاني أهم الأماكن المسيحية في العالم؟... وأنا أصلا اتواجد في دياركم البريطانية وحتي الآن لم أرَ أو اسمع بريطانيا الجديدة تعتذر عن مسؤولية الامبراطورية البريطانية في نكبة شعبنا الفلسطيني . وقد تطرقت في النقطة الثانية الي سماحة وبراغماتية حماس مقدماً أمثلة للتعاون في الانتخابات التشريعية والبلدية بين الفلسطينيين النصاري و حماس عارضاً حالتي رام الله وغزة. سيناريو التجويع والتركيع والوقوع في فخ الإقتتال الداخلي المدسوس والممول لم يرد في الحسبان.
مؤخراً، وفي ذات اليوم الذي نشر فيه الاستاذ عبد الباري عطوان مقالته بعنوان أخجل لكوني فلسطينيا ، وكالعديد من العرب الذين توجه لهم في المهجر صباح مساء أسئلة كلما حصل شيء له علاقة بالعرب او المسلمين من قريب او بعيد، سألني باهتمام وقلق زميل أكاديمي (غير عربي) عما يحصل في غزة. كان سؤاله جاداً يتطلب الدخول في التفاصيل. فحتي لو كان المرء في كيمبريدج الباردة إجتماعياً والمثلجة مناخياً وأكاديميا، ولو حاولنا أثناء التحليل غض الطرف عن نزيف الدم الفلسطيني في البنايات والشوارع اصطناعياً واكاديمياً مسخرين لاجل ذلك نظريات العلوم السياسية والعلاقات الدولية، فقد شعرت أثناء محاولتي اجابته بخجل يشوبه الاحباط الشديد والحزن العميق. بعد ساعات، وعندما اطلعت احد الطلاب علي مقالة الأستاذ عطوان، رد الطالب قائلاً بما ينم علي انه غير مقتنع: نعم... نعم... ولكني لا أظن أنه يقصد ما يحمله العنوان من معني.. بل قصد المبالغة لإيصال الرسالة، أليس كذلك؟ . لربما اكتسبت عروبتنا و فلسطينيتنا ونحن في المهجر، طبقة شفافة من الجلد تجعل المرء يصرخ ألماً مضاعفاً عند وقوع احداث كمصائب غزة المفجعة، رغم ان من يأكل الفلقة ليس كمن يعدُ العصي .
ما يفعله الاستاذ عطوان ليس جديدا. فتاريخ الصحافة الفلسطينية منذ إنطلاقتها رسمياً بعد تركيا الفتاة عام 1908 يزخر بتلك الامثلة حيث لعبت الصحافة الفلسطينية دوراً رائداً في مناهضة الاحتلال والاستعمار رغم تباين انتماءاتها الحزبية ونادت بوحدة الصف. ورغم إختلاف الظروف وعدم توجيه الفلسطيني السلاح بوجه أخيه الفلسطيني في فترة إستعمار فلسطين ما قبل النكبة، فهناك تشابه (وان لم يكن مطلقاً) ما بين توجه رئيس تحرير فلسطين المرحوم عيسي العيسي الي الفيلسوف العربي امين الريحاني طالباَ منه التوسط ما بين الحزبين المتقارعين أسوة بما حصل عشية تأسيس الاحزاب الفلسطينية في عشرينيات القرن السابق، وبين تذمر رئيس تحرير القدس العربي عبد الباري عطوان مما يحصل في قطاع غزة. الفرق هو أن عطوان ـ شاركناه الرأي في التفاصيل ام خالفناه ـ وجه سهام كلماته الحزينة ومعانيها توجيها مباشرا الي عامة الناس، والي ان يظهر امين ريحاني جديد او تحمر خدود فلسطين خجلاً من الأعمال المشينة فسيبقي اسلوب عبد الباري عطوان علي حاله.
استاذ اعلام في جامعة كمبريدج
No comments:
Post a Comment