Thursday, 20 December 2012

كتاب 'مجلة حيفا' للمؤلف محمد سليمان - مقدمة د. مكرم خوري-مخول

كتاب 'مجلة حيفا'
 للمؤلف محمد سليمان
 يربط بين الماضي والحاضر 

مقدمة الكتاب بقلم :
د. مكرم خوري ـ مخّول
2011-04-10

 
يشكل البحث العلمي ركيزة أساسية في تطور وتقدم الأمم، وكلما تطور، كلما أسهم في عملية التعليم العالي، وبالتالي في كيفية تعامل الأجيال مع عوامل التطور والتقدم بدءا من الاقتصاد والتكنولوجيا كقطاعات وطنية وانتهاء بطرح الأبحاث وتحويلها إلى 'أوراق سياسية' خطط وبرامج يبنى عليها لاتخاذ القرارات في شتى مجالات الحياة، وفي المقدمة منها العلاقات الثقافية-السياسية عبر القنوات الدبلوماسية والقنوات الثقافية الإبداعية حيث يتغلب العقل والمنطق.
في هذا السياق بالتحديد، ليستميحني القارئ الكريم عذرا، إن قلتُ بأن المؤسسات والحكومات العربية لم تولي المبدعين والباحثين الاهتمام المطلوب حتى يقدموا لنا خلاصة تجارب من سبقنا في هذا المضمار، بعد أن كان يوما منارة إشعاع للباحثين والعلماء.
خطر لي الإشارة لما سبق وبين يدي جهد بحثي علمي غير مسبوق للإعلامي الباحث والكاتب الأستاذ محمد سليمان، في كتابه الجديد 'مجلة حيفا' التي تقوم مشكورة 'شبكة أمين' بإصداره.
'مجلة حيفا' هو كتاب أقترح إقراره في منهاج كليات الإعلام وشتى أقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية في الكليات الاخرى، ليكن في سياقه الأوسع، الذي يربط بين الماضي والحاضر دون توقف أو انفصال زمني، متوقفا عند العلاقات السببية ما بين العوامل الاقتصادية والسياسية. لا شك أن ابرز العناوين القومية للشعب الفلسطيني ما قبل نكبة 1948 كانت حركة الصحافة الفلسطينية التي تعددت عناوينها وتشعبت مجالاتها. والدارس لتاريخ هذه النهضة الثقافية قد يوافق على أنها كانت حركة دؤوبة صهرت أهم مشروع ثقافي شيدته الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية الفلسطينية بالتعاون مع المثقفين والأدباء الذين زخرت بهم صحافتنا، هي صحافة أسهم في تطورها القطاع الخاص وعدد من المبادرات الفردية التي قادها كتاب وأدباء وشخصيات وطنية كان لها دورها في الحركة الوطنية في فترة تعد من أهم حقبات التاريخ الإنساني الحديث.
إن الجهد البحثي الرائع الذي قام به الأستاذ محمد سليمان، يقع في إطار إحياء التراث الفلسطيني، الذي ظهر وكأن أحدا لا يريد نفض الغبار عنه، فجاء باحثنا ليقوم بذلك، وينقله من العتمة إلى دائرة ومركز الضوء وهو بهذا الاهتمام قد جعل لبعض مكونات التراث من الحاضر الذي ينسل من بين جنبات الماضي ليشكل المستقبل. وتبدو الاهمية الفائقة لمثل هذا الفعل عندما نستذكر أن ظلمةً أخرى تنسل لسرقة رواية التاريخ كما يريدها الاحتلال، وسباقنا هو في رسم مستقبلنا كما نحن نريد، وهو صراع الحق والباطل.!! على أرض الواقع وفي ظل مستجدات الحاضر الفلسطيني نبشر بزوال هذا الباطل الذي هيمن على رواية الحقائق عبر ماكينة إعلامية سيطرت لفترة طويلة على الرأي العام العالمي.
كتاب 'مجلة حيفا' هو بمثابة مشاركة في التصدي لهذه الهيمنة الثقافية-الإعلامية، لذلك هو عمل ريادي سباق بكل المقاييس، لباحث يجب أن يحذو حذوه باحثون كثر في الأطر الأكاديمية المختلفة، فلسطينيا وعربيا وعالميا، حيث يحرز الكتاب تقدما نوعيا في إطار الصراع على سلطة الثقافة السياسية والتي تشمل دراسة الصحافة الفلسطينية.
وحقا، لا يمكن لبحث واحد أن يلم بكافة المواضيع حول تاريخ الصحافة الفلسطينية، فيطبق الكاتب ما هو مستحسن أكاديميا، ويغوص في العمق يزودنا بالخلفية التاريخية النيّرة ولا يتوسع أفقيا، حيث يتركز في دراسة حالة بحثية واحدة وبشكل تفصيلي. فالعمل على انجاز مثل هذه الدراسة لا ينبع فقط من أهمية دراستها كمادة 'تاريخ' والتطرق إليها كعملية تابعة للماضي البعيد أو على شكل 'تراث' يتعلق بـ'القدامى والعتقية'، بل إن هذه الدراسة تعكس حركة اجتماعية-سياسية صاخبة دمجت المحلي بالقطري وبالعالمي، وهي تروي سيرة حركة صحفية نشطة ذات رؤى سياسية شائكة، كما وتعكس حياة شعب تخضرم ما بين الاحتلال العثماني والاستعمار البريطاني . وهذا الربط يوصل تلقائيا صحافة ما قبل النكبة بما بعدها وحتى يومنا هذا.
إن دراسة تاريخ الصحافة والإعلام مطلوبة لفهم تفاعل الحركات الاجتماعية، وهي مسألة مفيدة جدا، ويجب ألا بغيب عن بال احد أن دراسة ديناميكية المؤسسة الصحفية/الإعلامية آخذة بالتطور باستمرار منذ أربعة عقود. وان في غالبية المناهج العلمية هي بحاجة لأبحاث على غرار بحث 'مجلة حيفا' كما فعل الكاتب. ومن الممكن القيام به لاستقصاء المعلومات لا غير، وهذا هو الاستعمال الكلاسيكي. ولكن هناك استعمالا آخر وهو دراسة الصحيفة أو المجلة وفحواها ومضمونها كمنتوج إعلامي يتضمنه خطاب سياسي قد لا يدل أو يدل (كما هو الحال في دراسة 'مجلة حيفا') على وجود إيديولوجية معينة لأصحاب المجلة، وهذا ما يضيفه محمد سليمان على وجه التحديد. وللتوضيح، فالأمر الأخير يأخذنا إلى عملية دراسة الصحافة كمؤسسة إعلامية تتشابك فيها مسألة الإيديولوجية بالملكية وبالبرنامج السياسي لملاك المطبوعة حيث تتقاطع المصالح التجارية للفرد العامل فيها، وغالبا ما يؤثر ذلك على مسارها السياسي، واستمرارية صدورها أو توقفها. وكل ذلك يجب أن يثبت بواسطة البحث العلمي لا عبر صفحات إنشائية. ففي اللغات الأوروبية يستعمل مصطلح (Research) ولا يقصد به البحث الأولي فحسب، وانما البحث عن كثب و/أو إعادة البحث عن قرب وبعمق. وهذا ما يوفره لنا المؤلف بجدارة، مقارنة ببعض المنشورات الصادرة في عالمنا العربي.
وهنا من المفيد التنويه بنقطة تتعلق بهوية المؤلف وخلفية الباحث والأبعاد السياسية لهذا الموضوع. فيجيد الباحثون في هذا العصر (والمستشرقين منهم على وجه التحديد) لغات متعددة تمكنهم الولوج بأبحاث علمية عن فلسطين والأمة العربية والصحافة الفلسطينية، شريطة تمتعهم بالقدرات العلمية، وهذا شيء مهم يجب مراقبته والاستفادة منه حيث أمكن وباستمرار. إلا أن قلة منهم كرست الدراسات الجدية في هذا المضمار. لكن الأهم هو قيام باحثين وكتاب فلسطينيين بالغوص في الأبحاث على شتى تفرعاتها وبالتحديد الصحافة، مستعملين ما تيسر لهم من أدوات ومناهج علمية. وفي هذا السياق، يتمتع محمد سليمان بعدة ميزات مهنية أهلته لانجاز هذا البحث الهام الذي نحن بصدده. فقد عمل في شتى مجالات الإعلام الفلسطيني المسموع والمكتوب منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية من موقع المهني-القيادي، وساهم بإدارة سياسة وزارة الإعلام، ونشر العديد من الأبحاث القيمة، أضف إلى انه عايش عن كثب مسيرة الصحافة الحزبية-الحركية وهو ما يؤهله أكثر من غيره، الكتابة عن أول مجلة عربية يسارية 'مجلة حيفا' حيث انه يدرك بجدارة الخصوصية الثقافية لشعبة وحضارته، ويبحث عنها مجددا بأسلوب قريب جدا من الأسلوب الأكاديمي (إلا أنه أكثر سلاسة) ليدونها ويحللها منطقيا.
النقطة الأخيرة التي تجعلنا نثمن هذا العمل الطليعي للكاتب، هي انه دمج الاستكشافي بالوصفي، طارقا باب 'الجديد البحثي' (وهو شرط من شروط أطروحات الدكتوراه) وقام بالتمحيص البحثي مزاوجا إياه بتحليل نقدي جريء لا مصلحة خفية فيه.
وان اختياره 'مجلة حيفا' يسلط الضوء على مسيرة انخراط مجموعة من المثقفين الفلسطينيين في إطار الصحافة الشيوعية في فلسطين. فرغم أنظمة الطوارئ التي فرضتها مؤسسات الاستعمار البريطاني فترة احتلالها وفيما بعد شرعنه احتلالها بـ'انتدابها' على فلسطين وفرضها أقسى أنظمة الرقابة على الصحافة، والتي نالت غالبية الصحف الفلسطينية المقاومة منها ابتداء من صحيفة 'الكرمل' الريادية لشيخ الصحافة الفلسطينية نجيب نصّار في حيفا ومرورا بصحيفة 'فلسطين' (لعائلة العيسى اليافية) العريقة أو انتهاء بجريدة 'الاتحاد' الحيفاوية (وهي أقدم جريدة فلسطينية على قيد الحياة) بقيت الصحافة تعارك وتقارع للدفاع عن فلسطين. إلا أن الدارس للصحافة الفلسطينية التي صدرت عن الحزب الشيوعي في فلسطين (بمسمياته المتعددة ومنها 'عصبة التحرر الوطني' ابتداء من 1944 بقيادة أمثال الراحل إميل حبيبي) نتيجة قوانين الحظر يلاحظ انه إضافة إلى الحظر المحلي، فقد تعرضت إلى أنواع عقاب ذات أبعاد عالمية ارتبطت في العلاقات الدولية ما بين الإمبراطورية البريطانية بالاتحاد السوفيتي وعلاقاته بالأحزاب الشيوعية عالميا بواسطة 'الكومينترن' ودور الأخير بحركات التحرر والمقاومة.
يزيد كتاب 'مجلة حيفا' من أهمية دراسة الصحافة الفلسطينية لكونه ينشر جانبا يحلل نمط مجلة سياسية معارضة خلطت المفهوم الاقتصادي-السياسي للطبقية في المجتمع الفلسطيني، ومسألة التحرر القومي دوليا ونظرية الأخوة و'التعايش بين الشعوب' كجزء من إيديولوجية عالمية في فلسطين وباللغة العربية.
وبما انه يدور الحديث حول الصراع على الثقافة في هذا السياق، فان ما يضاعف من أهمية كتاب 'مجلة حيفا' بشكل كبير هو أن المؤلف يزيد متانة الرؤية الفلسطينية للثقافة الفلسطينية والتي يراد سلخها عن الشعب الفلسطيني، في إطار حملة تعريته من حضارته فيتم تبرير المقولة الدعائية 'ارض بلا شعب، لشعب بلا ارض'. حيث لا ثقافة-لا شعب، ويثبت المؤلف جليّا وتكرارا وجود ثقافة لشعب كان وما زال يناضل للحفاظ على أرضه، ليعيش وليبقى الإعلام ضلعا من ضلوع الحركة القومية الثقافية الفلسطينية.
إن ما أنجزه الإعلامي والباحث المخضرم محمد سليمان، وهو الذي يستند على خبراته الغنية ويسخّر مهاراته البحثية، هو بمثابة إنقاذ جزء اثري وثري من ثقافتنا العربية الفلسطينية، لا بل بعث الحياة فيها حيث حوّلها من قطعة أثرية منسية بين طبقات الغبار المتآمر في قلة من سراديب الأرشيف، إلى جسم حي يتنفس على شكل نص تم إنقاذه ومعالجته وتحليله وصياغته ككتاب بالـغ الأهمية، لانتزاع العبر منه وذلك في سلسلة من المنشورات التي ما زالت بحاجة إلى المزيد من المبادرات العلمية عن الإعلام الفلسطيني وتاريخ الصحافة بشكل خاص. حقا إنها لمساهمة رائعة للمكتبة العامة.
كيمبريدج، انجلترا

No comments:

Post a Comment